يبدو أن خط الاتصال الساخن بين عمان يعمل هذه الأيام في أقصى طاقة، وما كان يفترض أن يتم في سرية تامة، ظهر بقوة للعلن، والسبب مخزون السلاح الكيماوي السوري. ففي الوقت الذي تكتمت فيه عمان، فإن تل أبيب قد كشفت النقاب عن أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد زار عمان أربع مرات في غضون الشهرين الماضيين، والتقى خلالها مع الملك عبد الله الثاني، لبحث التهديد الناجم عن انتشار السلاح الكيماوي السوري، في حال سقط نظام الأسد.
ويرى المراقبون في تل أبيب أنه لم يحدث أن قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بهذا العدد من الزيارات في غضون وقت قصير ، كما فعل نتنياهو في زياراته المتكررة لعمان؛ مما يدلل على أمرين لافتين، وهما:
أولاً: الاهتمام الكبير الذي يحظى به مصير مخزون السلاح الكيماوي السوري بالنسبة لصناع القرار في تل أبيب.
وثانياً: حجم ومستوى الرهان الإسرائيلي على الأردن ودوره كأحد مرتكزات إسرائيل الأساسية في مواجهة تداعيات الربيع العربي، على اعتبار أنه الدولة الوحيدة، التي تتمكن إسرائيل من إجراء اتصالات حساسة على هذا النحو مع أرفع مستويات الحكم فيه. ليس هذا فحسب، بل أن القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي ليلة 28-12-2012 قد كشفت النقاب عن أن ممثلين عن جهاز الموساد زاروا عمان عدة مرات لبحث ” الحلول العسكرية “، التي يمكن أن تقوم بها إسرائيل للتخلص من مخزون السلاح الكيماوي، ومدى تعاون الأردن معه. وقد أوضحت القناة أن عملاء الموساد تسللوا إلى سوريا عبر الحدود مع الأردن لجمع معلومات استخبارية عن مخازن السلاح الكيماوي.
وترى مواقع القرار في اسرائيل أن للأردن دور بالغ الأهمية في مساعدة إسرائيل على التخلص من الخطر الذي يمثله مخزون السلاح الكيماوي في سوريا، وذلك على صعيد جمع المعلومات الاستخبارية، وعلى الصعيد العملياتي الميداني. ولقد ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي صباح 29-12-2012 أن إسرائيل طلبت من الأردن مساعدتها في الحصول على إفادات من ضباط الجيش السوري، الذين انشقوا عن النظام ولجأوا إلى عمان بشأن مكان مخازن السلاح الكيماوي. وبذلك يتبين أن إسرائيل لا تعرف بالضبط أماكن تخزين السلاح الكيماوي، في سوريا. في الوقت ذاته، تبين أن إسرائيل تستعين بالإدارة الأمريكية لممارسة الضغوط على عمان لإبداء أقصى درجات التعاون مع تل أبيب في مواجهة السلاح الكيماوي السوري.
ومن جهته اكد نائب رئيس الوزراء والوزير المكلف بمواجهة التهديدات الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية موشيه يعلون أن التحرك الإسرائيلي تجاه مخزون سوريا من السلاح الكيماوي يستند على دعم قوي ووثيق من الولايات المتحدة، التي أوضحت للأردن أهمية وقوفها إلى جانب إسرائيل في مواجهة خطر السلاح الكيماوي السوري. ليس هذا فحسب، بل أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تحدثت عن تحرك مشترك لكل من عملاء الموساد ووكالة المخابرات الأمريكية ” السي آي أيه ” لتبادل الأفكار بشأن أفضل السبل الكفيلة بمواجهة خطر السلاح الكيماوي السوري.
وتدعي إسرائيل أنه استناداً للمعلومات الاستخبارية ” الدقيقة ” التي لديها، فإن سوريا تملك أكبر مخزون للسلاح الكيماوي في المنطقة، وتنتشر مخازنه على بقعة واسعة من الأراضي السورية. وتتخوف اسرائيل من إنه في ظل المؤشرات على قرب سقوط نظام بشار الأسد، فإن هناك احتمال مؤكد أن هذا السلاح سينتقل إلى قوى معادية، لن تتردد في استخدامه ضد إسرائيل. وحسب أفيف كوخافي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المعروفة بـ ” أمان “، فإن هناك احتمال كبير أن ينتقل جزء كبير من السلاح الكيماوي للجماعات الإسلامية السنية المنضوية تحت لواء الثورة السورية، والتي تمكنت مؤخراً من تحقيق انجازات كبيرة في الآونة الأخيرة. ونقلت القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي ليلة 30-12-2012 عن كوخافي قوله في اجتماع طارئ للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست أن سيطرة الجماعات السنية المقاتلة تحت لواء الثورة السورية يمكن أن يحدث في أية لحظة، مستدركاً أنه لا يوجد شواهد على أن هذه الجماعات تبدي اهتماماً في هذا الوقت بالسيطرة عليه، لأنها معنية بالأساس بتثبيت تقدمها الميداني. والمفارقة التي تزيد الأمور تعقيداً بالنسبة لكثير من النخب العسكرية في إسرائيل هو أن هذه الجماعات قد سيطرت على قرى وبلدات سورية متاخمة لهضبة الجولان، وعلى بعد مئات الأمتار فقط من المستوطنات اليهودية المنتشرة فوق الهضبة. وقد عرضت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي تحقيقاً تلفزيونياً ظهرت فيه آثار الأعيرة النارية والقذائف التي سقطت على المستوطنات وبيوت المستوطنين جراء المواجهات التي وقعت في البلدات والقرى السورية على الطرف الثاني من الحدود. وهناك سيناريو آخر تخشاه إسرائيل، ويتمثل في أن يقوم النظام في حال انهياره بتسليم حزب الله السلاح الكيماوي. وهناك في إسرائيل من يتوقع أن حزب الله لن ينتظر أصلاً أن يمنحه النظام هذا السلاح، بل قد يبادر للسيطرة عليه ونقله إلى لبنان لتوظيفه في مراكمة قوة الردع الخاصة به، في مواجهة إسرائيل.
ويتضح من خلال الجدل الإسرائيلي المعلن، أو ما يجري تسريبه من معلومات يتم تبادلها داخل أروقة صنع القرار في تل أبيب أن أي تحرك إسرائيل عسكري ضد مخازن السلاح الكيماوي السوري يتطلب تعاوناً وثيقاً من الولايات المتحدة والأردن. ويتضح من خلال الجدل الإسرائيلي، أنه على الرغم من مزاعم إسرائيل بأن لديها معلومات استخبارية كافية حول أماكن انتشار مخازن السلاح الكيماوي في سوريا، فإن هناك مؤشرات على أن هذه المزاعم غير صحيحة، وهو ما يدلل عليه حرص جهازي الموساد و” أمان ” على تكثيف الجهود لجمع المعلومات الاستخبارية. ونظراً لفرض حظر نشر المعلومات الذي أصدرته الرقابة العسكرية، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية قد اكتفت بالإشارة إلى ما نشرته وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية بأن عناصر من وحدة ” سييرت متكال “،التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية ” أمان “، والتي تعتبر أهم وحدة نخبة في الجيش الإسرائيلي يقومون سراً بتمشيط الأراضي السورية، بحثاً عن مخازن السلاح الكيماوي السوري، بالإضافة لعملاء الموساد.
ولا ينحصر جمع المعلومات الاستخبارية فقط عن طريق توظيف التقنيات المتقدمة، بل أن الأمر يتطلب الاعتماد على المصادر البشرية، وهو ما يقوم به عملاء الموساد و ” أمان “، وهؤلاء بحاجة إلى تمشيط أوسع مساحات من الأراضي السورية مشياً عن الأقدام عبر استخدام مجسات وتقنيات قادرة عن الكشف عن مخازن السلاح الكيماوي عن بعد. من هنا، فإن هناك حاجة لأن يتسلل هؤلاء إلى سوريا عبر مناطق مختلفة، لذا فهم يتسللون عبر الأردن، حيث بإمكانهم أن يصلوا إلى منطقة جنوب سوريا، وعبر غرب العراق، ليقوموا بتمشيط المناطق الشرقية من سوريا، وانطلاقاً من كردستان، يمكنهم تمشيط مناطق واسعة في شمال سوريا. لكن معضلة إسرائيل – كما ترى دوائر البحث الاستراتيجي في تل أبيب – لا تتوقف عند الحصول على المعلومات الاستخبارية، فحتى بعد أن تتوفر هذه المعلومات، فإن قدرتها على العمل غير مطلقة، حيث أن التدخل الإسرائيلي الآن سيحرج الأردن ودول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة، لأن مثل هذه الخطوة ستعزز موقف النظام المنهار، وستظهر الدول التي تدعم الثورة السورية لدواع مختلفة على أنها في الواقع شريك لإسرائيل في التواطؤ ضد سوريا الدولة وليس النظام.
من ناحية ثانية، تشير المحافل العسكرية الإسرائيلية إلى أن هناك مشاكل فنية تتمثل في سبل التعامل عسكرياً مع مخزون السلاح الكيماوي. فالسيطرة عليه عبر عملية برية وتفجيره بشكل آمن، أمر بالغ التعقيد لأنه ينتشر في الكثير من الأماكن. كما ان تفجيره من الجو يمكن أن ينتج عنه كوارث إنسانية ناجمة عن تضرر مئات الآلاف من المدنيين، ويمكن أن ينتقل الضرر إلى خارج حدود سوريا.
من هنا جاءت زيارات نتنياهو المتتالية للأردن لبحث سبل مواجهة تهديد السلاح الكيماوي، في ظل أقل قدر من الأضرار الجانبية.