اخذت فرنسا على عاتقها مهمة القضاء على التنظيمات الأرهابية في مالي ظناً منها انها ستحقق نصراً سريعاً يمهد لها الطريق للعودة بقوة الى القارة السمراء للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية ولكسب المزيد من المنافع الإقتصادية فيما معظم دول العالم اكتفت بإصدار بيانات تدعم الخطوة الفرنسية دون الأعلان عن عزمها المشاركة فيها لأنها ،كما يبدو، تعتبرها خطوة غير محسوبة النتائج .
وكان من المنتظر ان يبدأ التدخل العسكري الفرنسي في مالي خلال شهر اذار / مارس المقبل حيث يبدأ موسم الأمطار ولكن تمكن التنظيمات الأصولية المحسوبة على ” القاعدة ” من تحقيق انتصارات على الأرض دفع بباريس الى استباق الموعد المحدد والى تغيير خطة التدخل المرسومة والتي كانت مبنية على ثلاث مراحل :
– المرحلة الأولى تقضي بإستقرار جنوب مالي وحماية باماكو مع نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ، – والمرحلة الثانية هي وضع القوات الإفريقية التي ستقاتل الجماعات المسلحة في أماكنها خلال شهر يناير / كانون الثاني الجاري،
– أما المرحلة الثالثة فهي لبدء العمليات العسكرية خلال شهر مارس/ اذار في أقصى تقدير.
وكانت الخطة تتجنب ان يكون لفرنسا جنود على الأرض وأن تكتفي بتقديم الدعم اللوجستي ، وتقديم المعلومات لقيادة الجيوش الإفريقية.
ولكن ما يجري الأن هو عكس ذلك تماماً حيث تقوم المقاتلات الحربية الفرنسية بدك معاقل تحالف المقاتلين الإسلاميين في مالي والذي يضم تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين وجماعة التوحيد والجهاد في غرب افريقي،كما تم انزال نحو 1700 جندي على ان يرتفع العدد الى نحو 2500 لاحقاً.
وبرأي المراقبين ان فرنسا تنزلق شيئاً فشيئاً نحو تدخل عسكري واسع في مالي، حيث تمكَّن أصوليون إسلاميون عملياً من اقتطاع شمال هذا البلد والسيطرة عليه. وترافقت هذه السيطرة مع أزمة سياسية كبيرة في البلاد، بدأت بانقلاب عسكري واستمرت رغم وساطات أفريقية عدة. وبدا في الأسابيع الماضية أنه بعد هزيمة الجيش المالي في الشمال، باتت الوحدة الجغرافية مهددة، بما يتيح للأصوليين توسيع نفوذهم نحو الجنوب.
هذا التدخل الفرنسي جرى تبريره بمساعدة الحكومة المالية التي طالبت به، وبمنع قيام منطقة آمنة للأصوليين في شمال مالي ينطلقون منها إلى الجوار وأوروبا. لكنه في الواقع يتعلق بالمصالح الفرنسية العليا في هذا الجزء من أفريقيا، فأي نظرة إلى الخريطة توضح حجم هذه المصالح الفرنسية في بلدان الجوار المالي. ولعل أهمها في النيجر، شرق مالي، حيث تستثمر فرنسا أهم مناجم اليورانيوم، عماد صناعتها الحديثة وقوتها الضاربة. وحيث تحداها الأصوليون بخطف عاملين فرنسيين في هذه المناجم، وما زال هؤلاء رهائن لدى الإسلاميين.
كما تهدد السيطرة الإسلامية على شمال مالي أي الجزائرَ في حدودها الجنوبية وموريتانيا في حدودها الشرقية. ومعلوم أن هذين البلدين منخرطان في معركة ضد هؤلاء الإرهابيين الذي راحوا يتجمعون في شمال مالي هرباً من الملاحقة من القوات الجزائرية والموريتانية، ما يعني أن العملية تتضمن أيضاً السعي إلى الحفاظ على المصالح المتعددة الفرنسية في البلدين، إضافة إلى أن النفوذ الفرنسي هو الأكثر تأثيراً في البلدان الأخرى المجاورة لمالي، خصوصاً السنغال وساحل العاج.
وبهذا المعنى، تأخذ العملية الفرنسية في مالي طابعاً حيوياً جداً بالنسبة إلى باريس، بعدما باتت سيطرة الأصوليين الإسلاميين على شمال مالي تهدد المصالح الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا وراء الصحراء.
وبموازاة هذا التهديد، تخشى البلدان الأوروبية، ومنها فرنسا، من تحول أي منطقة قريبة من حدودها إلى ملاذ آمن للإرهاب. خصوصاً أن البلدان الأوروبية تظل الهدف المستمر للحركات الأصولية التي نفذت في السابق عمليات إرهابية كبيرة على أراضي القارة القديمة وما تزال. ويأتي الاستهداف الأوروبي لهذا الملاذ في شمال مالي كخطوة استباقية في الحرب على الإرهاب.
لكن مثل كل الحروب من هذا النوع، قد تتطور من عملية عسكرية يفترض أن تكون محدودة ولأغراض معينة، إلى تورط عسكري واسع ومتزايد، فهل يمكن فرنسا أن تتحمل أعباء مثل هذه الحرب الجديدة؟
هذا السؤال المشروع من المبكر الرد عليه ، ولكن ليس من المستبعد ان تكون الخطوة الفرنسية قد حركت “بيت الدبابير” الأسلاموي حيث الرد الأصولي قد يتم عبر ثلاث جبهات :
– الجبهة الأولى هي ان الجماعات الأسلاموية تمتلك مرونة في الحركة من منطقة الى أخرى ولديها امكانيات لوجستية وأسلحة استولت عليها من مخازن القذافي ودعم مالي من جهات ترى مصلحتها في زعزعة الأوضاع في افريقيا .
– الجبهة الثانية هي ان هذه الجماعات الأصولية المتمركزة في مالي بشكل كبير لديها امتدادات في جوار الجوار وأنصار قادرين على التحرك سريعاً لنصرتها بدليل ما جرى في الجزائر حيث انطلقت مجموعات اسلاموية من ليبيا ودخلت الى الجزائر لتعلن فيما بعد عن خطف 41 أجنبيا من بينهم سبعة أمريكيين في هجوم على حقول “إن أميناس” الغازية الواقعة على بعد حوالي 100 كيلومتر من الحدود الجزائرية الليبية ردا على التدخل الفرنسي في مالي وإنتقاماً من الجزائر لأنها فتحت اجواءها الجوية امام المقاتلات الفرنسية .
– الجبهة الثالثة حيث احتمال اقدام جماعات متطرفة على القيام بأعمال ارهابية داخل فرنسا او في دول اوروبية ولهذا اعلنت باريس حال الأستنفار القصوى لقواها الأمنية .. ولهذا ايضاً تمنعت بريطانيا وأيطاليا وألمانيا عن المشاركة مباشرة في هذه الحرب ، فيما أكتفت المفوضية الأوروبية بالموافقة على خطة لإرسال مئات العسكريين إلى مالي لتدريب القوات الحكومية التي تقاتل متمردين إسلاميين.
هذا الواقع ينبأ بأن المعركة في بدايتها وأن الخروج منها لا يمكن ان يكون مثل دخولها ما لم يتم اتخاذ قرار دولي شامل بقطع مصادر التمويل والتسليح عن كل القوى الأسلاموية اينما وجدت سواء في افريقيا او اسيا او اوروبا لأن من غير المعقول محاربة الأصولية في مالي وأفغانستان وباكستان ودعمها في ليبيا او في سوريا او في الشيشان.