جديد المركز

ذبول “الربيع العربي” قبل تفتح براعمه

الثورات العربية التي ادهشت الغرب عند انطلاقتها ولاقت حماساً كبيراً لدى معظم شرائح المجتمعات العربية لم تطل بها نشوة الإنتصارات التي حققتها حتى بدأ يخفت وميضها وتتراجع اشعاعاتها لتقضي بذلك على كل الأمال التي بنيت عليها لجهة اقامة سلطات ديمقراطية وحل الأزمات الإقتصادية والإجتماعية وذلك بسبب انقلاب هذه الثورات على نفسها والإنشغال بكيفة تفرد البعض بالحكم مع ما يستدعي ذلك من اقصاء تام للأخر .

ثورات تنكرت للشعارات التي رفعتها لجهة احترام التعددية والتنوع السياسي والطائفي والمذهبي والعقائدي وحولت ممارسة الحكم الى نوع من التسلط بأسم الأحادية فأتت برموز من نفس المدرسة السياسية والعقائدية الى المواقع الأولى في السلطة في تونس ومصر وليبيا ، وتسعى لتحقيق نفس الغرض في سوريا .

ثورات عربية كان من المفترض ان تصبح المثال الذي يُحتذى به ولكنها تقوقعت على نفسها ، وأنشغلت بالتصفيات بين اركانها ، وقدم كل قائد نفسه على انه الوحيد المنقذ وأن الأمر له دون غيره الى حد بات من الصعب التمييز بين القائد الجديد وسلفه الذي تم خلعه .

هذا هو واقع الحال في تونس حيث هناك خلافات حادة بين اسلاميين معتدلين واسلاميين متطرفين وليبراليين وعلمانيين وعروبيين وقوميين وأشتراكيين مما يمنع انتاج سلطة وطنية تعبّر عن مصالح الناس ومطامحها وتعمل على ايجاد الحلول الناجعة لهمومها ومعاناتها .وكان الثمن مؤخراً احد اركان الثورة المدعو شكري بلعيد الذي اغتيل على أيدي رفاقه من ابناء “ثورة الياسمين” بعد ان تقاسم معهم في عهد الرئيس زين العابدين بن علي السجن الواحد والهم الواحد والمعاناة الواحدة .

وهذا هو واقع الحال في ليبيا حيث فشلت كل الجهود حتى الأن من بناء مشروع وطني يحتضن كل فئات المجتمع لأن الإنتماء العشائري والقبلي يتغلب على الإنتماء لمفهوم الدولة ، ولأن ابناء الثورة على القذافي انقسموا ما بين من يريد بناء دولة مستقلة دون تبعية وما بين من يريد الإيفاء بإلتزاماته التي قطعها لجهات عربية ودولية بوضع ثروات البلاد تحت رحمتها لقاء وصوله الى سدة الحكم وإستئثاره بالسلطة .

وهذا هو واقع الحال في مصر التي تتصاعد فيها الأوضاع وتتجه الى المزيد من السلبية لأن الأسلاميين قرروا ان يخططوا وحدهم لرسم مستقبل مصر دستورياً وسياسياً وإقتصادياً وفكرياً ، ولأن النصف الثاني من ابناء الثورة من علمانيين وعروبيين وإشتراكيين ومستقلين يريدون ان يكونوا شركاء في اعادة البناء كما كانوا شركاء في الثورة على حكم الرئيس حسني مبارك. وما بين هذين التوجهين يحتكم الجميع الى الشارع الذي لن يفرز إلا المزيد من الإنقسام والتفرقة والخلاف ، ولن ينتج عنه إلا إراقة المزيد من دماء الأبرياء .

والمراقب لتطورات الأحداث في سوريا لا يمكن له ان يستشف إلا نفس الواقع حيث اطراف المعارضة متباعدة فيما بينها فيما يخص الممارسة والأهداف الى حد انها لو استلمت السلطة لما امكن لها قيادة البلاد الى شط الأمان قبل ان تنشغل في تصفيات فيما بينها لحسم الأمر لصالح طرف احادي .

وبناء على ما تقدم يحق لأي مهتم ان يطرح الكثير من التساؤلات حول حقيقة ” الربيع العربي ” :

فهل كان من انتاج جهات خارجية شجعت على قيامه من خلال ادراكها انه سيكون منطلقاً لإشاعة فوضى مستمرة داخل كل بلد وإنشغال ابناء هذا البلد بأوضاعهم وسلطتهم ومصيرهم ودورهم فينكفؤون بذلك عن لعب أي دور خارج حدود الوطن ؟

أم هل كان الهدف من “الربيع العربي” السيطرة الخارجية على ثروات دول الثورات وترك الشؤون السياسية والسلطوية الى ابنائها ليتناحروا فيما بينهم دون تقديم ادنى مساعدة لهم لإيصالهم الى شط الإستقرار والأمان ؟

أم هل كان ” الربيع العربي ” فعلاً من انتاج محلي ولكن تم استغلال نتائجه ومساراته لأغراض خارجية ؟

أم هل هناك مشروع تقسيمي جديد للعالم العربي على غرار ” سايكس بيكو ” ؟

أم ان الشعب العربي غير مهيأ بعد لإدارة شؤونه بنفسه حيث لا زالت تطغى عليه روح السيطرة والتحكم دون أي تفكير بالغير ودون الأعتراف بحقوقه وواجباته ؟

في شتى الأحوال يمكن الجزم ان “الربيع العربي ” قد ذبلت براعمه قبل تفتحها وأن الإنتظار قد يطول حتى قيام ربيع أخر يكون اكثر واقعية وموضوعية وأكثر التصاقاً بطموحات الراغبين بالتغيير نحو الأفضل من اجل مصلحة الوطن وليس من اجل مصلحة شخص او طرف بعينه .